
جرحٌ من حروف: الكلمات تترك أثرًا لا يُمحى
قد لا ندرك أن الكلمات الجارحة تترك أثرًا عميقًا في النفس، أحيانًا يفوق جراح الجسد، بينما قوة الكلمة الطيبة قادرة على أن تُعيد الأمل وتُداوي ما انكسرجرحٌ من حروف — أثر الكلمات. .
قد يظن الإنسان أن الكلمة التي ينطق بها عابرة، تُلقى ثم تُنسى، لكن الحقيقة أن الكلمات تترك في النفس آثارًا أعمق مما نتخيّل.
بداية القصة مع سَديم
تجلس «سَديم» بعد أنتهاء مُحاضراتها وحيدةً كعادتها، حيث الهدوء وأصوات العصافير والأشجار، فهي رغم حُبها أحيانًا للجلوس مع صديقاتها، إلا أنها تُفضل أن تجلس وحيدةً تنتفع بشيء ما-رُبما تقرأ كتابًا، أو تستمع لدرس، أو حتى لتدرس- بدلًا من الجلوس في جماعةٍ تُضيع فيها وقتها، أو تستمع فيها إلى القيل والقال، أو رُبما كلامٍ يضر أكثر مما ينفع..
حديث رنيم وكلماتها الجارحة
جرحٌ من حروف — أثر الكلمات.
مرةً بعد مرة بدأ أصدقائها يتسائلون عنها، ويحاولون أن يجتذبوها إلى جلساتهم، فهم يُحبون أحاديثها، ويرغبون أن تظل معهم، لكنها كانت تأبى، وتعطيهم من الحجج ما يُرضيهم، لكن ذات مرةٍ خرجت إحداهن-رَنيم- عن صمتها، وقالت لمن تُجاورها-ولم تتنبه لقُربها الشديد من سَديم-: “لا أدري صراحةً ما الذي يجعلكن تُصررن عليها في الجلوس معنا، فغيرها كُثر، كما أننا لا نرتاح كثيرًا في الجلوس معها، لِم تتكبدون عناء إقناعها؟”.ثم نظرت لسَديم وقالت لها بابتسامة: “إن أردتِ الذهاب فلن نُجبركِ، أليس كذلك يا سُمية؟” ولكزت تلك الفتاة الجالسة بجوارها، فقالت: “أكيد، وإن كنا نُريدك معنا، ولكن إن كان هناك بالفعل ما يشغلك فإننا لن نُجبرك على شيء”..
ابتسمت سَديم، وقالت: “أشكر لكُنَّ ذلك حقًا، نلتقي غدًا إن شاء الله”، وسارت مُبتعدةً تحمل في قلبها الكثير والكثير..
كيف تترك الكلمات الجارحة ندوبًا غير مرئية؟
الإنسان كائن شديد الحساسية للكلمة، مهما بدا قويًا، قد ينسى أفعالاً كثيرة حدثت معه، لكنه لا ينسى جملة طعنت قلبه في وقت ضعف، بل إن بعض الأشخاص يحملون في ذاكرتهم كلمات سلبية من طفولتهم، ويظلون يتأثرون بها في قراراتهم ونظرتهم لأنفسهم حتى الكبر.
محاولة التماسك وسط العاصفة
قد لا ننسى بسهولة الكلمات التي تجرح، فهي تتكرر في عقولنا بلا استئذان.
وكعادتها في كل مرة، ذهبت إلى ذلك المكان الهاديء، وأخرجت كتابها مُحاولةً أن تُبعد تلك الكلمات عن رأسها، فهي تعلم تمامًا أن كلامهم غير صحيح، وأنها فعلًا إن كانت تُضيق عليهم في أحاديثهم إنما هي تفعل ذلك ابتغاءً لمرضاة ربها،
وإن كانوا هم تلقائيًا يفعلون ذلك أمامها؛ فذلك احترامًا لها، ولذلك فهي عادةً تتجنب الجلوس معهم حتى يتسنى لهم الحديث براحةٍ دون أن يؤذوا سمعها أو أن يؤثر ذلك سلبًا فيها..حاولت جاهدةً أن تُقنع نفسها بذلك، ورغم أنها تعلم في قرارة نفسها أن ذلك صحيح، إلا أن تلك الكلمات لازالت تؤثر في قلبها تأثيرًا عظيمًا، فعلمت أنها لن تستطيع القراءة اليوم، فاغلقت كتابها وراحت تستمع لبودكاست تُحبه
لكن الأفكار ظلت تروح وتجيء في عقلها، فكانت تمحو كل كلمةٍ تدخل إلى أُذنها، حينها أغلقت كل شيء، وجلست تُحدث نفسها بأن عليها أن تُحادث شخصًا ما، شخصًا باستطاعته فعلًا أن يُسكت تلك الأفكار في عقلها للأبد، بكلماته الحكيمة، وعقله الكبير..
مرساة في بحر هائج: تذكّر شخصٍ مُطمئن
حينها تذكّرت سَديم أن في حياتها شخصًا حين تتزاحم الكلمات في عقلها، يكفي أن تُحادثه فتسكُن، وكأن صوته مرساةً تُثبّت قاربها في بحرٍ هائج.
لم يكن ذلك الشخص كثير الكلام، لكنه كان يعرف متى ينصت، ومتى يضع كلمةً صغيرة تُعيد ترتيب الفوضى في داخلها.
-السلام عليكِ ورحمة الله.
هكذا جاءها الصوت من الهاتف، ذلك الصوت الذي تعتبره مُهديءً للأعصاب، إنه صوت أخيها «حيَان».
=وعليكَ السلام ورحمة الله وبركاته، افتقدك يا أخي..
هكذا اعتادت أن تفعل دائمًا، أن تُهاتف أخيها كُلما ضاقت بها الدُنيا، فلا ملجأ لها في هذه الحياة بعد الله إلا هو..
وكذلك فقد عَلِم هو منذ اللحظة الأولىٰ أن هناك شيئًا ما، وتأكد من ذلك بعدما سمع صوتها، فقال بهدوء: “أخبريني يا عزيزتي ما بكِ، أتُريدين مني المجيء إليكِ؟”
ورغم ما بها، ابتسمت إثر كلماته، وقالت: “صراحةً، لولا أنني أعلم أن هذا سيُتعبك لقُلت لك بالتأكيد تعالَ، ولكنني أعلم أنن هذا مُتعب، فلا بأس بأن تستمع لي من هنا”..
-كلا هذا بالتأكيد لن يُتعبني، بل إنه يُسعدني كثيرًا أن استمع إليكِ وأرىٰ تعابير وجهكِ، لمن إذًا يجب عليّ الاستماع وتلبية النداء غيرك؟
تنهد وقال: “انتظريني فقط، سأكون عندك في غضون عشرين دقيقة”.
أُغلق الخط، وجلست تنظر إلى السماء، إلى غيومها الجميلة، وتستمع إلى العصافير المُزقزقة، وإلى تلك الأشجار التي تتمايل مع الرياح..
اللقاء مع حيَان: بداية الحل
وبالفعل، لم يتأخر بل وصل مُبكرًا عن ذلك الميعاد بثلاث دقائق، بعد أن تتبع مكانها على الخريطة-بعد أن أرسلته له-، وهناك جلس إلى جوارها-وقد كان الجميع يعلم أن لها أخًا أكبر، فلم تكن تتكبد العناء خوفًا من سوء الظن، كما أن الشبه الكبير بينهما، يُفصح عن ذلك-، وقال لها بابتسامة: “هيا إذًا أخبريني عما شتت عقل صغيرتي، فأنا أعلم أن الأمر جللٌ بالتأكيد طالما أنك لم تستطيعي السيطرة عليه!”
=كلا، الأمر تافه، وأنا أعلم أنه كذلك، لكنني تلقيت الكثير من تلك الكلمات في الآونة الأخيرة، والتي حاولت كثيرًا أن اتناساها وأتجاهلها، لكنني بالخطأ راكمتها في عقلي، حتى آل بي الحالُ إلى الكثير من الأفكار السيئة في عقلي، وبالطبع كما تعلم فإن التفكير المُفرط زاد من الأمر سوءًا..
تشبيه الحديقة: حكمة بليغة من أخٍ كبير
-يا صغيرتي، أنتِ كتلك الحديقة التي نجلس فيها، قد تتساقط علىٰ أرضها بعض الأوراق اليابسة فتظنين أنها أفسدتها، لكنها تبقى زاخرةً بالزهور والثمار، وتلك الأوراق تتساقط لا لتُلوث الحديقة وتجعل منها مكانًا سيئًا، بل ليأتي بدلًا عنها أوراقٌ جديدة ومُختلفة..
المشكلة ليست في الحديقة، بل فيكِ أنتِ لأنك ركّزتِ على تلك الأوراق ولم تنظري إلى جمال ما حولها.قالت بصوتٍ خفيضٍ:
=لكن يا أخي، كلماتهم تؤلمني، حتى وأنا أعلم أنها غير صحيحة، ورُغم ذلك أشعر بها تخترق قلبي وعقلي، وفي أحيانٍ كثيرة تُعيد تشكيل صورةٍ لي عن نفسي، صورةٍ غير حقيقية، لكنها تتشكل هناك، داخل عقلي!
وهنا لم تستطع أن تتمالك نفسها، ورُغمًا عنها تساقطت دمعاتها كالآليء، فضمها حيان إليه، ومسح دمعاتها برفق، وقال:
-شعورك هذا طبيعي، أتعلمين لماذا؟ لأنك نقيةٌ صادقة، تحملين قلبًا مُرهفًا يتأثر بسهولة، لكن تذكري ذلك، لا أحد في هذه الحياة يستطيع أن يعرّفكِ بنفسك غيركِ، ولا أحد يملك أن يسلُبكِ قيمتكِ ما دمتِ تعرفينها أمام الله. الناس يتكلمون، يُخطئون، يُصيبون، وربما يجرحون بلا وعي؛ أما أنتِ، فاختاري ألا تحملي في صدركِ إلا ما يُقربكِ إلى الله، وما يزيدكِ ثقةً بنفسك.
كيف تتجاوز الكلمات الجارحة؟ خطوات عملية
وضع كفه على كفها بحنانٍ بالغٍ، وقال:
-وأريدك أن تتذكري دائمًا كلما سمعتِ كلامًا عنك أو عن غيرك منهم، أو سولت لكِ نفسكِ أن تتحدثي عن غيرك بسوء، فتذكري أنه عن مُعاذ بن جبل أنه قال: «قلتُ يا رسولَ اللهِ أنؤاخذُ بكلِّ ما نتكلمُ به؟ فقالَ: ثَكِلتْك أمُّك يا معاذُ بنَ جبلٍ، وهل يكُبُّ الناسَ على مناخرِهم في جهنمَ إلا حصائدُ ألسنتِهم؟». [أخرجه الترمذي]
الكلمة قد ترفع إنسانًا إلى أعلى مراتب الجنة، أو تُسقطه في النار، وهي على اللسان خفيفة، لكن وقعها في القلوب قد يكون أثقل من جبل.
المرجع الحقيقي عند مواجهة كلام الناس
تنهد وهو ينظر إلى السماء، ثم قال:
-الناس يا صغيرتي قد يرمون كلماتهم بلا قصد، لكن البلاء كُل البلاءِ أن نُدخلها قلوبنا ونُفسد بها حياتنا..
لو علمتِ أن الله يعلم نيتكِ حين اخترتِ العزلة، وأنكِ تركتِ حديث القيل والقال لوجهه، لما اهتز قلبكِ أصلًا.عاد ينظر إليها بحنانٍ وقال:
-اجعلي مرجعكِ دائمًا إلى الله، لا إلى كلام البشر، فالناس لا يملكون لكِ نفعًا ولا ضرًّا، ولكن الله وحده هو النافع الضار، أوليس هو القائل في كتابه العزيز: ﴿فمن يعمل مثقال ذرة خيرًا يره (7) ومن يعمل مثقال ذرة شرًا يره (8)﴾ [الزلزلة: 7-8]
القلب واللسان: سرّ الكلمة الطيبة
وأخيرًا علت شفتاها ابتسامةُ رضا، فاسترسل في قوله:
-قال يحيى بن معاذ-رحمه الله-: ‹القلوب كالقدور في الصدور تغلي بما فيها، ومغارفها ألسنتها، فانتظر الرجل حتى يتكلم فإن لسانه يغترف لك ما في قلبه من بين حلو وحامض وعذب وأُجاج، يخبرك عن طعم قلبه اغتراف لسانه›.
فالإنسان لا يتكلم إلا بما امتلأ به قلبه، فصفاء قلب المرءِ لا يُغيّره قول أحد، وإنما يظهر صفاءه على اللسان الطيب، والأخلاق التي يعرفها من حولك.
-فإذا جرحكِ كلام الناس بقصد أو بدون قصد، فاستحضري أن الله يُثيبكِ على صبرك، وأن ما يهمّ حقًا هو الكلمة التي ترفعينها إلى الله بالدعوة إليه، لا الكلمة التي يسقطونها عليكِ بوعيٍ أو بلا وعيٍ منه..
الخاتمة: الكلمة تصنعك لا تهدمك
رفعت رأسها وفي عينيها بريق أمل، وقالت:
=كأنني أرى الأمر أوضح الآن، الكلمة ليست ما يقولونه عني، بل ما أختار أنا تصديقه، أليس كذلك؟
ابتسم لها بفخرٍ وقال:
-نعم، وهنيئًا لكِ إن اخترتِ ما يُرضي الله.
سكت قليلًا، ثم أضاف:
-ولتعلمي يا صغيرتي، أنكِ عندي أثمن بكثير من أن تهتزّي أمام جملةٍ عابرة. أنتِ ثابتة في قلبي كما الجبال، فكيف يهزّكِ كلام البشر؟
الخاتمة
في النهاية، لا تنسَ أن الكلمات ليست مجرد حروف، بل قوة قد تهدم أو تبني، فاختر دائمًا أن تكون كلماتك نورًا يُضيء لا سيفًا يجرح.
الكلمة ليست مجرد صوت يخرج ثم يتلاشى، بل هي رسالة تكشف عن أعماق القلوب. وما دام اللسان مغرفةً للقلب، فصلاح القلب ينعكس نورًا على الكلام، وفساده يظهر ظلامًا في الألفاظ، وعلىٰ ذلك؛ فعلينا أن يكون قلبنا عامرًا بالإيمان والرحمة، حتى لا نتحدث إلا بالخير، وأن لا يسمع الناس منا إلا خيرًا يفيض عليهم..
أثر الكلمة الطيبة:
القرب من الله: ترفع درجات المؤمنين وتقربهم من ربهم.
المحبة والمودة: تزرع الألفة والمودة بين الناس وتقوي العلاقات الاجتماعية.
صدقة: تُعتبر الكلمة الطيبة صدقة عن قائلها.
النجاة من النار: تكون وقاية من النار، ويتحقق بها أجر عظيم، كما جاء في الحديث: «اتقوا النار ولو بشق تمرة فمن لم يجد فبكلمة طيبة».
القبول والتأثير: تفتح القلوب وتؤثر في النفوس، وتزرع أثرًا صالحًا.
فهي كالنبتة الطيبة التي تضرب جذورها في الأرض فتنمو وتثمر، تمنح صاحبها الأجر من الله، وتشفى بها القلوب المكسورة وترسم الابتسامة على الوجوه. إنها مفتاحٌ للقلوب، بلسمٌ للأرواح، وسلاحٌ يقطع الطريق على الشيطان ويحفظ المودة بين الناس.